6/24/2013

نساؤنا ونساء الإفرنج من روائع الشيخ على الطنطاوي رحمه الله


بسم الله الرحمن الرحيم




جاءني في البريد كتاب من سيدة فاضلة ، لم تصرح باسمها ، ولكن أسلوبها نمّ على فضلها وأدبها ، شكت فيه أشياء واقترحت أشياء ، وكان مما جاء في كلامها قولها :"وانظر إلى ضيق الحياة التي تحياها المرأة العربية وسعة حياة المرأة الغربية ، وقيد هذه وحرية تلك "

فوقفت عند هذه العبارة ، وفكرت فيها ، وعزمت على أن أكتب إليها لأوضح لها خطأها فيما ذهبت إليه ، ثم ذكرت أني لا أعرف أسمها ولا عنوانها ، فقلت : أجعلُ جوابها موضوع هذا المقال .

إن ما ظنته هذه السيدة يظنه كثير من السيدات ، ولا يعترفن أن ذلك ظن وتخمين بل يرينه يقيناً وفوق اليقين ؛ وأصدق جواب على هذا وأعمقه معنى ؛ ما أجابت به تلك السيدة الأمريكية الأستاذ الشيخ بهجة البيطار .

حدثني الأستاذ أنه كان يتكلم عن المرأة المسلمة في أحدى محاضراته في أمريكا ، ويذكر أن لها الاستقلال في شؤون المال ، ولا ولاية عليها في مالها لزوجها ولا لأبيها ، وأنها وإن كانت معسرة كُلف بنفقتها أبوها أو أخوها ، فإن لم يكن لها أب أو أخ فأي واحد من أقربائها الذين يرثونها ، ولو كان ابن عم عمها ،وأن هذه النفقة تستمر إلى أن تتزوج أو يكون لها مال ، وأنها وإن تزوجت كُلف زوجها بنفقتها ولو كانت تملك مليوناً ، وكان عاملاً لا يملك شيئاً ... إلى غير ذلك مما نعرفه نحن ويجهلونه هم عنا .

فقامت سيدة أمريكية من الأديبات المشهورات فقالت :" إذا كانت المرأة عندكم كما تقول فخذوني أعيش عندكم ستة أشهر ثم أقتلوني "

وعجب من مقالها وسأل عن حالها ، فشرحت له حالها وحال البنات هناك ، فإذا المرأة الأمريكية تبدو حرة وهي مقيدة ، وتُرى معززة زهي مهانة ، ثم إنهم يعظمونها في التوافه ويحقرونها في جسيمات الأمور .

يمسكون بيدها عند نزول السيارة ، ويقدمونها قبلهم عند الدخول للزيارة ، وربما قاموا لها في الترام لتقعد ، أو أفسحوا لها في الطريق لتمر، ولكنهم ــ في مقابل ذلك ــ يسيئون إليها إساءات لا تحتمل .

إذا بلغت البنت هناك سن الرشد ، قبض أبوها يده عنها ، وسد باب داره في وجهها ، وقال لها : "أذهبي فتكسبي وكلي ، فلا شيء لكِ عندي بعد اليوم " فتذهب المسكينة تخوض غمرة الحياة وحدها ، لا يبالون أعاشت بجدِّها أم بجسدها ، ولا يسألون هل أكلت خبزها بيديها أم بثدييها ، وليس هذافي أمريكا وحدها بل هوشأن القوم في ديارهم كلها .

حدثنا أستاذنا الدكتور يحيى الشماع من ثلاث وثلاثين سنة ، أنه ذهب إلى منزل أسرة ليستأجر غرفة لديها ، فقابل وهو داخل بنتاً خارجة منها في عينيها أثر الدمع ، فسأل : مالها ؟ قالوا له : هذه بنتنا ، ولكنها انفصلت عنا لتعش وحدها ، فقال إنها تبكي ، قالوا لقد جاءت تستأجر غرفة عندنا لم نؤجرها ، قال ولم لا ؟ فقالوا : لأنها دفعت أجرة لها عشرين فرنكاً ، وغيرها يدفع ثلاثين .

لقد ابتذلت المرأة هناك ، حتى صارت تبذل ما نراه أعز شيء عليها ، وهو العرض ، في سبيل أهون شيء علينا وهو الخبز .

إن الفاسق عندنا يتبع المرأة ويبذل لها الغالي والثمين ، لأنه لا يجدها إلا بمشقة ، ولا يصل إليها إلا بنصب .

استترت المرأة الشرقية فعزت ، وتمنعت فطَلبت ، وعرضت الغربية فهانت ؛ لان كل شيء معروض مهان .

لقد فقدت المرأة الغربية الزوج ، ففقدت المعيل ، واقتحمت كل عمل لتعيش ؛ فصارت تعمل في المصنع ، وتشتغل في الحقل ، وتكنس الطريق من الأقذار ، ومن النساء من تعمل في صبغ الأحذية .

هذه هي منزلة المرأة في ديار القوم ، على حين أن المرأة الشرقية تبقى دائما في بيتها ، يكد الرجل ويشقى ليطعمها ويكسوها ، وإذا بلغت المرأة عندنا سن الزواج ، طلبها الرجل وتوسل إليها بالعطية الكبيرة (المهر ) يدفعه إليها ، فيكون حقا لها وحدها ، لا لأبيها ولا لأخيها ، وليس لأحد التصرف في شيء منه إلا بإذنها ، والمرأة الغربية تركض وراء الرجل ، فتسقط خمسين سقطة قبل أن تصل إليه ، وربما سقطت سقطة كان فيها هلاكها ، ثم إن وجدته لم يتزوجها حتى تتوسل إليه بالمبلغ الكبير ، ثم يكون له الإشراف على مالها ، يشاركها في التصرف فيه .

قد تقولين : كان هذا من زمان ، وقد كسدت عندنا سوق الزواج وكثرت عندنا العوانس . وهذا صحيح ، ولكن لِمَ كان ذلك ؟

كان لأننا قلدنا الإفرنج فيما يشكون منه ويتمنون البعد عنه ، كان لان المستعمرين وضعوا في نفوسنا أنهم أرقى منا وأكثر تقدماً ، وان ما يفعلونه هو الصواب ، فقلدناهم في كل شيء .

ولكن هل يحتمل طبعنا العربي هذا التقليد كله ؟

كان العرب أغير الناس على الأعراض حتى أنهم وأدوا البنات خوفاً من العار .

فهل يتمالك العربي نفسه أن يكون في حفلة فيأتي رجل يقول له:" أسمح لي "

يسمح له بماذا ؟ لا بان يريه ساعته ، ولا بكبريت يشعل له دخينته ، بل يسمح له بأن يأخذ زوجته براقصها

ليس في الدنيا عربي يرضى بهذا ، ولا يرضى به مسلم ، ولا يكاد يرضى به رجل صادق الرجولة ، بل إنه لا يرضى بمثل هذه من الحيوانات إلا الخنزير !

هذه حال نساء الغرب ، فهل نساء الغرب اليوم في خير حتى نبغي مثل الذي عندهن لنسائنا ؟

لقد عرفتم ما قالته المرأة الأمريكية للشيخ بهجة البيطار ؟ ولو نطقت كل ألمانية وكل فرنسية لقالت هذا .

إنكم تنقمون من شريعتنا أنها تعطي البنت نصف ميراث الرجل ، وتعدد الزوجات ، فأسالوا نساء أمريكا : أما يقبلن أن يأخذن نصف ميراث الرجل وان يكلف الرجل وحده بالإنفاق عليها ؟

سلوا نساء ألمانيا بعد هذه الحرب : أما يتمنين أن يكون لكل عشر منهن زوج ، يعدل بينهن وينفق عليهن ؟ وبم تعالج مشكلة زيادة النساء في ألمانيا وأمثالها إلا بهذا ؟

إذا كانت الطبيعة التي طبع الله الناس عليها توجب أن يجتمع النوعان ، ومامن اجتماعهما بد ، ولم يكن إلا خمسون رجلاً ومئة امرأة ، فهل ثمة إلا أن يكون لكل امرأتين رجل ؟ أو ليست هذه فطرة الله في أنواع الحيوانات كلها ؟ كم نسبة الذكور إلى الإناث في النحل وفي الدجاج ؟ أولا يتخذ الزوج الغربي أربعاً أو أكثر من أربع ، ولكن بالحرام ؟

أترضون بالثانية خليلة بعقد إبليس ، ولا ترضون بها حليلة بعقد الله ؟

لا ياسيدتي ، لا تظني أن نساء الغرب اسعد عيشاً أو أعز أو أكرم ، لا والله ، ليس في الدنيا أعز ولا أكرم من نسائنا .

أن الزوج عندنا لامرأته لا لخليلة ولا لصديقة ، والمرأة لزوجها لا لعاشق ولا لرفيق ، له وحده ، لا تتكشف لغيره ولا يطلع عليها سواه . فهل هذا عيبها عند هؤلا المقلدين ؟ هل يريد أحدكم أن تكون امرأته له أو لغيره ؟

هل يغضب أن ترك له صحنه ليأكل منه وحده،ولا يرضى حتى يأكل بصحن تقع فيه كل الأيدي ؟

أيكون الطهر عيباً والعفاف عاراً ، والخير شراً ، والنور ظلاماً؟

حسبنا تفكيراً برؤوس غيرنا ،حسبنا نظراً بعيون عدونا ، حسبنا تقليداً كتقليد القرود ، ولنعد إلى أنفسنا، إلى إسلامنا ، إلى طهرنا وعفافنا .

ليضع نساء الغرب ما شئن وشاء لهن الرجال ، فما لنا ولنساء الغرب ؟ وليكن نساؤنا كما نريد نحن لهن ويريد الله ، لنكون لهن وحدهن ، ونقنع بهن ولا ننظر إلى غيرهن .

ليس في الدنيا نساء خير من نسائنا ما تمسكن بحجابهن ، وحافظن على آدابهن ، وتقيدن بأخلاق العرب وأحكام الإسلام ، وأعرف ذلك المجتمع الفاضل الذي أخرج عائشة وأسماء والخنساء وخولة ومئات من المربيات الفاضلات ، والعالمات الأديبات ، والأمهات اللاتي ولدن أولئك الرجال الذين كانوا فرسان الميادين ، وفرسان المنابر ، وأبطال الفكر ، وملوك المال ، وسادة الدنيا ، وكنتن أنتن أمهات أولئك السادة .

المقال ( نساؤنا ونساء الإفرنج )

اسم الكاتب : فضيلة الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله .